شرح الورقات في أصول الفقه [5]



لقد عقد المصنف باباً للقياس، وهو الدليل الرابع من الأدلة الإجمالية، وذكر أقسامه، وجاء بعده بباب الحظر والإباحة حيث قرر أن الأشياء على الإباحة إلا ما حظره الشرع، وإذا تعارضت الأدلة فهناك قانون ينبغي أن يعمل به، ذكره في باب ترتيب الأدلة، وفي آخر هذه الأبواب ذكر شروط المفتي (المجتهد)، والمستفتي (العامي)، وتعريف الاجتهاد والتقليد.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فقال رحمه الله: [باب القياس]:
عقد هذا الباب للنوع الرابع من أنواع الأدلة الإجمالية، فأول الأدلة الإجمالية: الكتاب، ثم السنة، ثم الإجماع، ثم القياس.
  تعريف القياس
والقياس مصدر قاس الجرح إذا سبره ليعرف غوره، ومنه قول الشاعر:
إذا قاسها الآسي النِّطَاسيُّ أدبرت غثيثـتها وازداد وَهْـيًا هُزُومُها
يصف الشاعر طعنةً، (إذا قاسها الآسي) أي: أدخل فيها المسبار ليعرفَ غَوْرَهَا.
والقياس في اصطلاح الأصوليين: هو حمل معلوم على معلوم، لمساواته له في علة حكمه عند الحامل.
فقولنا: [حمل معلوم] أي: إلحاقه، والمعلوم: هو ما عُرف عينُه، والمقصود هنا: وجُهِل حكمه، لأن ما جاء النص بحكمه لا يُحتاج إلى حمله على غيره.
[على معلوم] أي: معلوم العين، معلوم الحكم، وهو الأصل.
[لمساواته له] أي: لموافقته له.
[في علة حكمه] أي: في تحقق العلة فيهما معاً، فلا قياسَ إلا في المعللات، فالتعبديات المحضة لا قياس فيها.
[في علة حكمه] سواء كانت تلك العلةُ نصيَّةً أو استنباطيَّةً.
[عند الحامل] أي: عند الذي قاس، ليدخل في ذلك: القياس الفاسد، فإن الفرعَ لا يساوي الأصلَ فيه في علة حكمه عند جمهور الناس، وإنما يساويه عند الحامل وحده، ومع ذلك يُسمى قياساً، وإن كان فاسداً.
وعرف المصنف القياس بقوله:
 أركان القياس
[وأما القياس: فهو رد الفرع إلى الأصل في الحكم بعلة تجمعهما].
- فقال: [رد الفرع] أي: إلحاق مجهول الحكم، معروف العين.
- [إلى الأصل] أي: معروف الحكم والعين معاً.
والمقيس، يسمى عرفًا بـ [الفرع]، والمقيس عليه يُسمى عرفًا بـ [الأصل].
[في الحكم] وهذا هو وجه الرد، أي: إلحاقه به إنما هو في الحكم.
- [بعلة تجمعهما] أي: بسبب جمع العلة لهما، فالعلة تجمعهما معاً.
وهذا التعريف جامع للأركان الأربعة، التي هي أركان القياس، وهي: الفرع، والأصل، وحكم الأصل، والعلة الجامعة.
وهذه العلة تسمى بـ (الوصف الجامع) -أيضاً- في الاصطلاح.

قال: [وهو ينقسم إلى ثلاثة أقسام: قياس علة، وقياس دلالة، وقياس شبه] القياس المقصود به هنا قياس الطرد؛ لأن القياس ينقسم إلى قسمين: قياس طرد، وقياس عكس، فقياس العكس هو: معرفة حكم فرع بحمله على عكس حكم الأصل؛ لاختلافهما في العلة، وذلك مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم: (وفي بضع أحدكم صدقة، قالوا يا رسول الله! أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟! قال: نعم، أرأيتم إذا وضعها في حرام أكان عليه وزر؟ فكذلك إذا وضعها في حلال كان له أجر)، فاستباحة الحلال الذي يثاب عليه الإنسان قياس، لكنه ليس كقياس الطرد؛ لأن الأصل والفرع لا تجمعهما علة، فلا يجتمعان في الحكم، فحكمهما مختلف لاختلاف علتهما، فعلة الإثم في الزنا أنه وضعها في حرام، ويقابلها علة الثواب في المباح أنه وضعها في حلال.
أما قياس الطرد: وهو الذي ينقسم إلى هذه الأقسام الثلاثة التي ذَكَرَ، وهي: قياس العلة، وقياس الدلالة، وقياس الشبه.
  قياس العلة
قال المصنف: [فقياس العلة: ما كانت العلةُ فيه موجبةً للحكم].
العلة في الأصل: ما يُغَيِّر حالَ الشيء كالمرض، فالمرض يُسمى علة؛ لأنه يغير حال المريض.
والعلة في الاصطلاح: هي العلامة التي أناط بها الشارعُ الحكمَ، وأدركَ العقلُ وَجْهَ ترتيبه عليها.
ويمكن أن يُقال: هي الوصفُ الظاهر المنضبط، الذي عَلَّقَ الشارع به الحكمَ، وأدرك العقلُ وجهَ ترتيبه عليه.
فقلنا: (هي الوصف)، والمقصود به: كل ما يُعَلَّلُ به، سواء كان حكماً شرعياً، أو كان إثباتَ أمر، أو كان نفيَ أمر، أو كان مركباً من أمرين، فكل ذلك يُسمى علةً.
(الوصف الظاهر)، فالوصف الخفي لا يمكن أن يُعلل به، ومثله: الوصف الطردي، الذي لا اعتبار له.
(المنضبط) بخلاف الوصف المتردد، فلا يصلح للتعليل، فلا يُعلل به كالمشقة مثلاً، فهي غيرُ منضبطة؛ لاختلافهما بين شخص وشخص.
(الذي أناط الشارع به الحكم) أي: علَّق به الحكمَ.
(وأدرك العقلُ وجه ترتيبه به) ليَخرُج بذلك السببُ؛ فإن الشارع أناط به الحكم، لكن لا يُدرك العقلُ وجهَ إناطته به، كغروب الشمس، فقد علق الشارع عليه وجوبَ ثلاث ركعات، وهي: صلاة المغرب، وغروب الشفق علق الشارع عليه وجوبَ أربع ركعات، وهي صلاة العشاء، والعقل لا يُدرك لماذا عُلقت ثلاث ركعات على غروب الشمس، وأربع ركعات على غروب الشفق.
وأما العلة: فإن العقل يُدرك وجهَ تعليق الحكم عليها، كالإسكار: علة لمنع الخمر، فالعقل يُدرك العلاقة هنا؛ لأنه يعلم أن الخمر تَعتدي على العقل وتزيله، وأن الحفاظ على العقل من ضروريات الناس، لذلك جعل الشارعُ الإسكارَ - وهو إزالة العقل - علةً لتحريم الخمر.
قال: [فقياس العلة: ما كانت العلةُ فيه موجبةً للحكم].
أي: كانت العلةُ فيه مقتضيةً للحكم، بمعنى: أنه لا يحسن تخلف الحكم عنها، بأن تُوجد هي في الفرع، ولا يوجد الحكم فيه، فهذا يكون حينئذ ممنوعاً.
ومثال ذلك: قياس ضرب الوالدين أو أحدهما على التأفيف؛ فإن الله تعالى يقول: إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا[الإسراء:23] ، فهنا نهى أن يقول الولد لوالده: أفٍّ، وفي القراءة السبعية الأخرى: (فَلا تَقُلْ لَهُمَا أفِّ وَلا تَنْهَرْهُمَا)، ومعناهما واحد، ويُلحق بالتأفيف: الضربُ والشتم وأنواع الأذى؛ لأن العلة متحققة فيها، وهي: عدم الإحسان إلى الوالدين وأذاهما، فالضرب أبلغ في الأذى من التأفيف، ومثله: الشتم، فكل ذلك أبلغ في الأذى من التأفيف.
فالمقيس عليه هو: التأفيف، والفرع: هوالضرب وأنواع الأذى، والحكم: التحريم، والعلة: الإيذاء.
فلا يحسن تخلف الحكم في الفرع الذي هو الضرب، بأن يُباح الضرب، مع منع التأفيف، فهذا لا يُستحسن عقلاً.
وهذا الفرع أبلغ في تحقق العلة فيه من الأصل، والعلة: هي قطع الأذى.
والمساوي: إلحاق الأرز بالقمح في الربوية، وفي التعشير، أي: في أخذ عشره في الزكاة، إذا كان مما سقت السماء، ونصف عشره إذا كان مما سقاه الإنسان بآلته.
والأرز لم يرد فيه النص، والنص إنما ورد في القمح، لكن يُلحق به الأرز لاجتماعهما في العلة وهي: الطعمية، والادخار، والكيل، والوزن، فهما يجتمعان في كل الأوصاف المعتبرة، فكلاهما طعام مقتات مدخر مكيل أو موزون، فيُلحق به بهذا القياس.
فالفرع: الأرز، والأصل هو البر -أي: القمح- والحكم: حرمة الربا، ووجوب الزكاة، والوصف الجامع : الطعمية، أي: الاقتيات والادخار، أو كونه مكيلاً أو موزوناً، على الخلاف في علة الربا في هذه الأجناس.
  قياس الدلالة
النوع الثاني قياس الدلالة:
قال المصنف: [وهو الاستدلال بأحد النظيرين على الآخر، وهو أن تكون العلة دالة على الحكم، ولا تكون موجبة للحكم].
وهذا الذي يُسمى بالاستدلال، وهو ثلاثة أنواع:
1 - استدلالٌ بالعلة على المعلول.
2 - واستدلالٌ بالمعلول على العلة.
3 - والاستدلال بأحد المعلولين على الآخر.
وهو أن يُستدل بأحد النظيرين على الآخر، والمراد بالنظيرين هنا: المشتركان في الأوصاف، كما ذكرنا في الأرز والقمح، فيُمكـن أن يتخلف الحكم في الأرز -مثلاً- ويُثبت في القمح.
ومثل ذلك: السكر -مثلاً- وإلحاقه بالقمح في منع الربا فيه، بجامع أن كلاً منهما طعام، فالعلة هنا غير موجبةٍ للحكم؛ لأن العقل يمكن أن يُدرك فرقاً بين السكر والقمح، وهذا معنى قوله: [ولا تكون موجبة للحكم]؛ لاحتمال وجود فرق بين الفرع والأصل.
وأكثر الأصوليين يعرفون قياس الدلالة بأنه: الجمع بين الأصل والفرع بدليل العلة، لا بالعلة نفسها.
كالشدة في الخمر أو الرائحة المخصوصة، فإن الغليان أو الإرغاء والإزباد في الخمر، ليس هو العلة -التي هي الإسكار- ولكنها دليل العلة.
  قياس الشبه
النوع الثالث: قياس الشبه:
قال المصنف: [وهو الفرع المتردد بين أصلين فيلحق بأكثرهما شبهًا].
أي: هو إلحاق الفرعِ المترددِ بين أصلين بأكثرهما شبهاً به.
والأصوليون يمثلون له بـ(العبد)، فهل يُلحق بالجمل لاشتراكهما في الْمِلك، أو بالرجل الحر لاشتراكهما في الإنسانية؟ فالعبد له وصفان: الإنسانية وكونه مملوكاً، فبأيهما كان أكثر شبهاً يُلحق به.
فهو من ناحية التصرف مملوك، يُلحق بالمملوكات، فيُتصرف فيه كما يُتصرف في المملوكات الأُخَرِ.
وهو من ناحية الإنسانية: مكلف بالغ، له أوصاف الإنسان من العقل والتكليف والبلوغ وحصول الأجر على الطاعة، وحصول الإثم على المعصية.
فيُلحق بأكثرهما شبهاً به، والصحيح أنه يُلحق بالحر؛ لأنه به أشبه.
قال: [ولا يصار إليه مع إمكان ما قبله].
أي: لا يُلجأ إلى قياس الشبه مع إمكان ما قبله، أي: مع وجود قياس الدلالة، أو قياس العلة.
  شرط الفرع
قال: [ومن شرط الفرع: أن يكون مناسباً للأصل].
فللأصل شروط، وللفرع شروط، وللعلة شروط، ولحكم الأصل شروط.
وهذه الشروط غير محصورة لكثرة الخلاف فيها، وهو ذكر بعضَها هنا.
فقال: [ومن شرط الفرع: أن يكون مناسباً للأصل].
أي: من شروط الفرع، والشرط هنا لما أُضيف إلى المعرفة عمَّ؛ لأن كل مفرد أضيف إلى معرفة يعم، مثل قول الله تعالى: وَبَنَاتِ عَمِّكَ[الأحزاب:50] أي: كل أعمامك، ومنه قول الشاعر:
بها جيف الْحَسْرَى فأما عظامُها فَبِيـضٌ وأما جِـلدُها فصليبُ
جلدها: أي: كل جلودها، لأن الْحَسْرَى ليس لها جلد واحد، بل جلودها كثيرة بعدد رءوسها.
وهو هنا لم يقصد الحصر، ولهذا قال: [ومن شرط الفرع: أن يكون مناسباً للأصل]، والمقصود بالمناسبة هنا: المساواة في العلة، بأن تكون علة الحكم وصفاً مناسباً لكل من الأصل والفرع، وذلك مثل: إلحاق الحاقن بالغضبان في منع القضاء، فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهـى أن يقضيَ القاضي وهو غضبان، وعلة النهي: تشوش الذهن، وهي موجودة في العاطش والجائِع والحاقِن والْحَازِقِ ونحو ذلك.
فالحاقن: هو الذي يحتاج إلى دخول الخلاء، أو إلى الاستراحة من البول.
والحازق: هو الذي يلبس خفاً قد ضَيَّقَ على رجله، فآلَمَهُ.
فهؤلاء في تشوش الذهن: كالغضبان.
فيُلحق هذا الفرع بالأصل هنا للمناسبة وهي: علة مستنبطة غير نصية.
  شرط الأصل
قال رحمه الله: [ومن شرط الأصل: أن يكون ثابتاً بدليل متفق عليه بين الخصمين].
[من شرط الأصل] أي: من شروط الأصل.
[أن يكون ثابتاً بدليل متفق عليه بين الخصمين] أي: أن يكون حكمُه ثابتاً بدليل متفق عليه بين الخصمين، فإن كان ذلك الدليل محل خلاف بين الخصمين، أو كان وجود الحكم في الأصل محل خلاف بين الخصمين، لم يتفقا على ذلك القياس.
فهذا شرط لحكم الأصل، ومعناه: أن يكون حكم الأصل الذي يُراد إثباته في الفرع ثابتاً بدليل من نص -من كتاب أو سنة- أو إجماع، ويكون ذلك متفقاً عليه بين الخصمين المتنازعين؛ لأن البحث بينهما، فإذا ذكر المستدِلُّ -وهو أول المتكلِّمَيْنِ- الحكمَ مقترناً بدليله من نص أو إجماع، لم يُشترط موافقة الخصم؛ لأن دلالة النص الصريح أو الإجماع الصريح على الحكم يُؤمَنُ معه الانتشار، أي: انتشار النزاع.
وإنما اشْتُرِط هذا لئلا يمنع الخصمُ الحكمَ في الأصل أصلاً، فيُحتاج حينئذ إلى إثبات الحكم أولاً في الأصل، فينتقل الخلاف عن محله إلى مسألة أخرى.
فمثلاً: من يُنكر الربويةَ في الفُلُوس، ويرى أن لا ربا فيها مطلقاً، راجت أو لم ترُجْ، ويُلحق بها العُملات المعاصرة اليوم، فحكم الأصل عنده إنما ثبت بدليل ليس محل اتفاق بينه وبين الخصم، فإذا احتج بذلك، سيُخاصِمُهُ الخصمُ بأن الفلوس -أصلاً- عنده ربوية، فينتقل الخلاف في العملات إلى الفلوس، وهكذا...
  شرط العلة
قال المصنف: [ومن شرط العلة: أن تَطَّرِدَ في معلولاتها، فلا تنتقض لفظاً ولا معنى].
أي: من شروط العلة كذلك: أن تطرد، أي: أن تَثْـبُتَ في معلولاتها.
والاطراد في العلة معناه: ملازمتها للثبوت، والانعكاس: ملازمتها للنفي، وكل ذلك مُشترَطٌ فيها.
فإن وُجد الحكم ولم تُوجد العلة؛ فتلك العلةُ مقدوحٌ فيها، وإن وُجدت العلة ولم يوجد الحكم؛ فتلك العلة مقدوح فيها أيضاً.
وهما قادحان معروفان، أحدهما يُسمى بـ: الكَسْرِ، والآخرُ يُسمى بـ: النَّقْضِ.
وذلك: كالإسكار، فكلما وُجد الإسكار في شيء، وُجد فيه التحريم، فلا يمكن أن يكون المشروبُ مسكرًا وهو مباح، بل كلما وجدت العلة وجد الحكم، ولقد فسر الاطراد بقوله: [فلا تنتقض لفظاً ولا معنى].
أي: أن لا يكون فيها النقضُ - الذي هو قادح من قوادح العلة - وهو: أن توجد العلة في صورة ولا يوجد الحكم، وهو من القوادح التي يبطل بها القياس.
ولا فائدة في قوله: [لفظاً ولا معنى]، فالمقصود: عدم انتقاضها فقط، ولكن يقصد هنا: أن لا تنتقض في الثبوت ولا في الانتفاء، فيقصد هنا: الاطراد والانعكاس في العلة.

قال: [ومن شرط الحكم: أن يكون مثل العلة في النفي والإثبات].
[من شرط الحكم] أي: حكم الأصل.
[أن يكون مثل العلة] أي: أن يكون مطرداً أيضاً.
[في النفي والإثبات] أي: مُطَّرِدًا، مُنْعَكِسًا.
فمن شرطه: الاطراد والانعكاس، فهو تابعٌ للعلة في النفي والإثبات - أي: في الوجود والعدم - فإن وجدت العلة وُجد الحكم، وإن انتفت انتفى الحكم، وهذا الشرط مُغْنٍ عن الشرط السابق، فلو ذُكِر هذا الشرطُ وحده لكفى،وذلك كالإسكار، فهو علة لتحريم الخمر، فمتى وُجد الإسكار وُجد التحريم، ومتى انتفى الإسكار انتفى التحريم.
فإن كان [للحكم] عللٌ متعددة لم يلزم من انتفاء علة معينة منها انتفاء الحكم، وذلك كانتقاض الوضوء بالبول وبالغائط والنوم وغير ذلك، فأية واحدة وُجدت رُتب عليها النقض.
 هل العلة القاصرة تصلح للتعليل أو لا؟
ثم قال: [والعلة هي الجالبة للحكم].
يريد بهذا: زيادة تعريف للعلة، أي: أن الحكم مرتبٌ على العلة، فمتى وُجدت وُجد الحكم، ومتى انتفت انتفى الحكم.
قال: [والحكم هو المجلوب للعلة].
أي: أن الحكم مرتبٌ على العلة، فهي علامة عليه، فمتى وُجدت تلك العلة وُجد الحكم.
وهنا أراد أن يبين بهاتين الجملتين: أن العلة يمكن أن تكون قاصرة، فتصلح للتعليل، وذلك كخروج النجس من أحد السبيلين، فقد دل الدليل على أنه ناقض للوضوء، وهو العلة، ولكن هذا مختص بما وردت فيه هذه العلة، فلا توجد هذه العلة في غير هذا المحل، فالعلة هنا قاصرة على مورد النص، فلا يُلحق به غيره.
أما العلة المتعدية: فهي التي توجد في غير محل النص، فيمكن أن يُلحق به غيره، كالإسكار في الخمر، فإن الإسكار قد يوجد في غير مشروب العنب، فيُلحق به.
وهذا محل خلاف: هل العلة القاصرة تصلح للتعليل أو لا ؟
1 - فقد ذهب المالكية والشافعية إلى صحة التعليل بالعلة القاصرة.
2 - وذهب الحنفية والحنابلة إلى أن العلة القاصرة لا تصلح للتعليل، فَرَأَوْا أن خروج النجس من أي مكان من البدن ناقض للوضوء إذا تفاحش، فمن استاك فخرج الدم من لِثَّتِهِ فتفاحش، فذلك ناقض عند الحنابلة والحنفية، ومثله: من جُرِح فخرج منه دم من ساقه أو يده أو غير ذلك، فإن تفاحش نقض عند الحنابلة والحنفية، ولا ينقض عند المالكية والشافعية؛ لأن العلة القاصرة لا تصلح للتعليل عندهم.

قال:[باب الحظر والإباحة]
عقد هذا الباب لورود الحظر وهو التحريم بعد الإباحة الأصلية، أي: ما كان قبل ورود الشرع على أصل الإباحة والجواز، ويقصد بهذا ذكر الاستصحاب الذي هو حجة ودليل من الأدلة الخلافية عند الأصوليين.
قال المصنف: [وَأَمَّا الْحَظْرُ وَالإِبَاحَةُ، فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ الأَشْيَاءَ عَلَى الْحَظْرِ إِلاَّ مَا أَبَاحَتْهُ الشَّرِيعَةُ].
يقصد أن بعض الأصوليين يرى أن الأصل في الأشياء كلها المنع؛ لأنها مملوكة للغير، فهي من ملك الله سبحانه وتعالى، فما لم يأذن فيه منها فهو على أصل الحظر، وهذا القول ضعيف جداً؛ لأن الله يقول: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا[البقرة:29] ، فالأصل في حركات المكلف وسكناته وتصرفاته الإباحة، إلا ما دل الدليل على تحريمه؛ فلذلك قال: [فمن الناس من يقول: إن أصل الأشياء على الحظر إلا ما أباحته الشريعة فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ فِي الشَّرِيعَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى الإِبَاحَةِ يُتَمَسَّكُ بِالأَصْلِ، وَهُوَ الْحَظْرُ.
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ بِضِدِّهِ -وهذا مذهب الجمهور- وَهُوَ: أَنَّ الأَصْلَ فِي الأَشْيَاءِ الإِبَاحَةِ إِلاَّ مَا إلا من حَظَرَهُ الشَّرْعُ].
ومنهم من قال بالتوقف بين الأمرين حتى يأتي الدليل، ولكن الراجح: الإباحة، فالأصل في الأعيان والأفعال المنتفع بها -قبل رورد الشرع- الإباحة، فالله تعالى يقول: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا[البقرة:29] ، ويقول: وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ * فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الأَكْمَامِ * وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ[الرحمن:10-12]، فدل هذا على إباحة كل ذلك.
ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن السؤال عن الأحكام حتى لا يُحرم الإنسان ما كان حلالاً، فقال: (إن من أعظم المسلمين جرماً من سأل عن شيء لم يُحرم، فحرم من أجل مسألته)، والله تعالى يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ[المائدة:101] فجعل هذا من العفو، الذي هو المباح.
فكل مسكوت عنه، فهو على أصل الإباحة، ومحل هذا في الأفعال والأعيان المنتفع بها، وأما ما لا نفع فيه، فإن تَمَحَّضَ ضَرَرُه كان على التحريم، ومنه الخبائث كلها، لقول الله تعالى: (الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث).
  تعريف الاستصحاب
[الاستصحاب]
قال المصنف: [ومعنى استصحاب الحال الذي يحتج به: أن يستحصب الأصل عند عدم الدليل الشرعي].
(استصحاب الحال) مصطلح أصولي لنوع من أنواع الأدلة، وهو دليل عقلي، وهو من الأدلة المختلف في الاحتجاج بها.
والاستصحاب أصلاً معناه: الصحبة، والمقصود به: إثبات ما ثبت في الماضي في الحال.
فما ثبت له وصف في الماضي، يُستصحب له، أي: يُحكم بصحبته لذلك الوصف، حتى يأتي ما يغير حاله.
قال: [ومعنى استصحاب الحال: أن يستصحب الأصل عند عدم الدليل الشرعي].
معناه: أن يُلتزم الحال الذي سبق أنْ ثبت للشيء، حتى يأتي ما يغيره عنه.
ولهذا يُقال في تعريفه: هو الحكم بأن ما ثبت في الزمن الماضي باق في الزمن المستقبل، وهذا هو معنى قولهم: (الأصل بقاء ما كان على ما كان)، وهذا هو معنى قولهم أيضاً: (الذمة إذا عَمَرَت بمحقق لا تبرأ إلا به)، والأصل براءة الذمة، وهكذا. فقواعده كثيرة.
  أنواع الاستصحاب
- والاستصحاب أنواع:
النوع الأول: استصحاب العدم الأصلي حتى يرد الدليل الناقل عنه، وهذا هو الذي أشار إليه المؤلف رحمه الله بقوله: [أن يستصحب الأصل عند عدم الدليل الشرعي]، فيُقال: الأصل في الأشياء الطهارة، فإذا جاء دليل ناقل عن ذلك أُخذ به.
وجمهور أهل العلم على الأخذ بهذا النوع.
النوع الثاني: هو استصحاب ما دل الشرع على ثبوته ودوامه، كاستصحاب الطهارة بناءً على ما مضى من الوضوء، كمن كان على طهارة موقناً بها، فطرأ عليه شك في تلك الطهارة، فذلك الشك عند الجمهور غير ناقض للطهارة السابقة، لأن: (اليقين لا يُزال بالشك)، وقد ذهب المالكية إلى أن ذلك الشك العارض ناقض، وأخذوا باستصحاب أمر آخر، وهو: استصحاب ما كان قبل الطهارة، فيقولون: الأصل أن الإنسان غير متوضئ، وقد توضأ ولكن وضوءه الآن مشكوك فيه، فهذا الوضوء مشكوك فيه، فلا ينقل عن الأصل المقطوع به وهو أن الأصل عدم الطهارة.
والجمهور يخالفونهم في ترتيب هذا الدليل، فيقولون: (الأصل فيمن تطهر أن يبقى على طهارته حتى يتحقق الناقض)، ولا يختلفون في حال الموسوس؛ لأنه ورد فيه نص، وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الشيطان يفسو بين إليتي أحدكم وهو في صلاته، فمن وجد ذلك فلا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً).
وقد نظم أحد العلماء الخلاف في هذه المسألة فقال:
الشكُّ في الأحــداثِ لا ينقُض عكسَ الذي أشياخُنا قد رضُوا
[يقصد: المالكيةَ ]
ومنهمُ من قال ما قلتـُـــه أي: من المالكية من قال ذلك
ومنهمُ من قال ما قلتـُـــه مـن عدم النقض فلا تُومضوا
إلا لما فيه الدليـــــل الذي منهاجه للمـــهتدي أبيض
أحمد والنعمان والشافعي والليث والأوزاعي لا يُنقَضُ
وضوؤُنا بالشك إسحاق لا يُنقض والثوري هذا الوضُـو
ناشـدْتُكم يـا إخوتي رووا لما لما قيدته المواق لا تـعـرضوا
النوع الثالث: استصحاب الدليل مع احتمال المعارض، فمن بلغه دليل من الشرع لزمه أن يعمل به، ولو احتمل أن يكون له معارض، ولا يجب البحث عن المعارض على الراجح، فأي دليل صح عندك عن النبي صلى الله عليه وسلم لزمك الأخذ به؛ لأن مدلوله راجح في حقك، و(العمل بالراجح واجب لا راجح).
النوع الرابع: استصحاب حال الإجماع في محل الخلاف، وذلك إذا انعقد الإجماع على حكم في حال، وحصل الخلاف في حال آخر، فيُستصحب حال الإجماع لحال الخلاف، وهذا هو أضعف أنواع الاستـصحاب، ولم يقل به إلا قليل من الفقهاء، لأن الإجماع إنما انعقد في حال، والخلاف حصل في حال آخر مناف له، فلا يمكن أن يُنقل الإجماع إلى الأمر الذي لم يُجمع عليه.

باب [ترتيب الأدلة].
عقد هذا الباب لترتيب الأدلة، فيما يُبدأ به منها، وما هو قطعي منها، وما هو ظني.
فقال رحمه الله: [وأما الأدلة: فيقدم الجلي منها على الخفي].
فالجلي هو: واضح الدلالة، المتفق على دلالته، فهو مقدم على الخفي الذي يختلف الناس في دلالته ومعناه.
قال: [والموجب للعلم على الموجب للظن].
أي: القطعي منها، مقدم على الظني.
والمقصود بذلك: القطعي في الورود، فهو مقدم على الظني فيه.
وهنا أربع احتمالات:
الأول: أن يأتي الدليل قطعياً في دلالته، وقطعياً في وروده، فهذا أبلغ الأدلة وأقواها.
الاحتمال الثاني: أن يأتي الدليل قطعياً في الورود -آية من كتاب الله مثلاً أو حديثاً متواتراً- ولكنه ظني في دلالته، فدلالته على المعنى المقصود: ظنية، وهذا هو الذي يليه.
الثالث: أن يكون الدليل ظنيَ الورود قطعي في الدلالة، حديث ظني ولكنه صريح في الدلالة، فهذا الذي يليه في المرتبة الثالثة.
الرابع: أن يكون ظني الدلالة والورود، حديث ظني في الورود، ومع ذلك دلالته غير صريحة، فهذا في المرتبة الرابعة.
ثم قال يرحمه الله: [ويقدم النطق على القياس].
[النطق] المقصود به النص، من كتاب أو سنة، فهو مقدم على القياس.
ومثل ذلك: الإجماع مقدم على القياس أيضاً.
[والقياس الجلي على الخفي]. كذلك يقدم القياس الجلي على القياس الخفي.
والقياس الجلي: هو قياس الأولى، كقياس الضرب على التأفيف، فهذا مقدم على القياس الخفي.
وهذا محله عند وجود الجميع، أو عند التعارض، فإذا أردتَ أن تستدل لأمر واحد، فترتب الأدلة هكذا:
تبدأ بالدليل من الكتاب، ثم بالدليل من السنة، ثم بالدليل من الإجماع.
وبعض الأصوليين يبدأ بالإجماع أولاً، لأنه لا يُنسخ، ولأنه واضح الدلالة دائماً، ثم بالدليل من الكتاب، ثم بالدليل من السنة، ثم بعد هذا بِجَلِيِّ القياس، ثم بخفيه، وهكذا.
وكذلك إذا تعارض دليلان فأقواهما الذي يُؤخذ به هو القطعي كما سبق، ثم النصي مقدم على القياس، ثم القياس الجلي مقدم على القياس الخفي.
ثم قال: [فإن وجد في النطق ما يغير الأصل وإلا فيستصحب الحال].
[إن وجد في النطق] أي: في المروي من الوحي.
[ما يغير الأصل] أي: ينقل عن البراءة الأصلية.
[وإلا فيُستصحب الحال] أي: يؤخذ بالاستصحاب حينئذ.
والحال هو: البراءة الأصلية.

[باب المفتي والمستفتي]
عقد هذا الباب للإفتاء.
والإفتاء: مصدر " أفتى ": إذا أخبر بالحكم الشرعي لا على وجه الإلزام.
والمفتي: هو الذي يجيب السائلَ، والسائلُ: هو المستفتي، قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ[يوسف:41] أي: تطلبان فيه الفتوى.
ويُقال: الفَتْوى، والفُتْيا.
  الشروط التي ينبغي أن تتوافر في المفتي
1- قال المصنف رحمه الله: [ومن شرط المفتي: أن يكون عالمًا بالفقه أصلاً] أي: يُشترط للمفتي أن يكون عالماً بالفقه، أي: بما يفتي فيه منه، ولا ينافي ذلك أن يكون جاهلاً بجزئيات أخرى من الفقه، فالجزئية التي يفتي فيها لا بد أن يكون عالماً بها؛ لقول الله تعالى: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ[الأعراف:33]، ولقوله تعالى: وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ[الإسراء:36].
فقوله: [أن يكون عالمًا بالفقه أصلاً وفرعاً]، عالماً بأصوله، أي: بأدلته، وفرعاً: أي بفروعه الناشئة عن تلك الأدلة.
[خلافاً ومذهباً] أي: في الخلاف العالي والخلاف داخل المذهب، وهذا الذي قاله غير شرط في كل مفت، فليس الحال كذلك في أيام الصحابة ولا في أيام التابعين ولا في أيام أتباعهم، وإنما يذكر هذا المتأخرون نظراً لتعصبهم للمذاهب.
2- [وأن يكون كامل الآلة في الاجتهاد] أي: أن يكون تامَّ شروط الاجتهاد، بأن يكون عالماً باللغة العربية، وبطرق دلالتها، وعالماً بالأدلة الشرعية، وبالناسخ والمنسوخ منها، وبأنواع دلالاتها، ولا يُشترط بلوغ الكمال في ذلك، بل ما يتعلق بالمسألة التي يفتي فيها من ذلك، أي: المسألة التي يفتي فيها بالخصوص من ذلك، لا بد أن يكون مطلعاً عليه، فإن كان جاهلاً بما ورد في مسألته التي يفتي فيها من الأدلة، أو بطرق دلالتها، أو بمعانيها في اللغة، فلا يجوز له الإفتاء في تلك المسألة.
ومن هذا يُؤخذ تجزؤ الاجتهاد، وأن الإنسان يمكن أن يكون مجتهداً في مسألة واحدة، ولا يُتقن الاجتهاد في غيرها.
3-
قال: [عارفًا بما يحتاج إليه في استنباط الأحكام، من النحو واللغة ومعرفة الرجال، وتفسير الآيات الواردة في الأحكام، والأخبار الواردة فيها].
ذكر المصنف أن من شروط المفتي أن يكون:
(عارفًا بما يحتاج إليه في استنباط الأحكام) أي: في استخراجها من أدلتها.
والاستنباط في الأصل: استخراج الماء من البئر البعيدة القعر، والمقصود به هنا: أخذ الأحكام من الأدلة، وقد سماه الله استنباطاً في كتابه في قوله: وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ[النساء:83] .
[بما يحتاج إليه في استنباط الأحكام من النحو] أي: من قواعده وما يؤثر في المعنى منها.
(واللغة) أي: علم مفرداتها، ومثل ذلك: الدلالات البلاغية.
(ومعرفة الرجال) أي: تراجمهم جرحاً وتعديلاً، وطبقاتهم حتى يعرف اتصال الإسناد أو انقطاعه.
(وتفسير الآيات الواردة في الأحكام) ولا يُشترط استظهارها، أي: حفظ متنها، فيجوز أن لا يكون حافظاً لآيات الأحكام، ولكنه مطلع عليها، فيعرف ما ورد فيها من الأحكام.
(والأخبار الواردة فيها) أي: أخبار الأحكام، وهي أدلة الأحكام من الحديث، فيكون مطلعاً عليها، ولا يُشترط حفظه لها، ولا استظهاره لها عن ظهر قلب.
وهذه الشروط، هي شروط المجتهد المطلق، ولا يُشترط لكل مفت أن يتصف بها.
ومثل ذلك المفتي في داخل مذهب من المذاهب، سواء كان مجتهدَ ترجيحٍ، أو مجتهدَ تخريجٍ، أو كان متبصراً، أو كان مجتهد فتيا، فلا يُشترط له التحقق بكل هذه الشروط.
  شروط وجوب الإفتاء
ويُشترط لوجوب الإفتاء:
1- أن يكون ذلك في مسألة قد نزلت، فالمسائل التي لم تنزل بعد لا يجب على المفتي أن يُعْمِلَ ذِهْنَهُ ويَكِدَّ في استخراج حكمها.
وقد كان مالك إذا سُئل عن مسألة يقول: " هل نزلت ؟ فإن كانت قد نزلت استعنا بالله عليها، وإن لم تكن قد نزلت، فإن لها رجالاً يعاصرونها، فأولئك أدرى بحكم ما عاصرهم، وكان يكره أرأيت، ويقول: دعك من الآرائتيين أي: الذين يقولون: أرأيت لو كان كذا لأمر لم يقع.
2- وأن يكون السائل مكلفاً؛ لأن غير المكلف لا يلزمه الاجتهاد.
3- وأن يكون سائلُه صاحبَ النازلة، أو يتعلق بها حكم له، فإن كان السائلُ غيرَ صاحبِ النازلة، ولا له اتصال به ولا تعلق به لم تلزم إجابته.
وقد نظم أحدُ العلماء هذه الشروط فقال:
وعـارفٌ مكـلفٌ قد سـألَهْ مكـلفٌ عن الذي يَجِبُ لَهْ
سائـلُهُ خـافَ فَوَاتَ النـازلَهْ حَـتْمٌ عليـه أن يجيب سائلَهْ
  ما يشترط في المستفتي
[ما يُشترط في المستفتي]
عقد هذا الباب لشروط المستفتي بعد أن بين شروط المفتي، فقال رحمه الله: [ومن شرط المستفتي: أن يكون من أهل التقليد] فلا يمكن أن يقلد مجتهدٌ غيرَه، فالمجتهد يجب عليه أن يبذل هو الجهدَ للوصول إلى ظن بالأحكام الشرعية، ويجب عليه أن يعمل بمقتضى اجتهاده، فلا يحل له تقليد غيره.
وهذا في المجتهد المطلق، وأما المجتهد المقيد بأنواعه كلها، فيمكن أن يقلد في القواعد أو في الأصول، ويمكن أن يقلد -كذلك- في التصحيح والتضعيف بالنسبة للأدلة، ولا بد أن يقلد فيما يتعلق بالجرح والتعديل؛ لأن ذلك مرجعه إلى الرواية.
قال: [ومن شرط المستفتي أن يكون من أهل التقليد فيقلد المفتي في الفتيا] أي: يقلد من أفتاه، وذلك فيمن تحققت فيه الشروط السابقة.
وكل مقلد فإنه يتوافر فيه جزءٌ من الاجتهاد، به يختار من يستفتيه، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية : (ما من أحد إلا وله حظ من الاجتهاد، وحظ العامي من الاجتهاد هو ما يختار به من يستفتيه) فليس أحدٌ منصوبًا للفتوى بعينه، لا يُستفتى إلا هو، فإنما يجتهد المستفتي حتى يختار من يفتيه، وذلك اجتهاد منه.
وتقليده، معناه: الأخذ بقول غير المعصوم من غير معرفة دليله، فإن عرف الدليل لم يكن مقلداً، وإنما يكون تابعاً إذا كان عاجزاً عن استنباط الحكم من الدليل.
قال: [وليس للعالم أن يقلد] أي: ليس لمن بلغ رتبة الاجتهاد أن يقلد غيره.
[وقيل: يقلد] هذه نسخة أثبتت هذا القول، وهو أن المجتهد له أن يقلد غيره، وذلك لما رُوي عن بعض الصحابة رضوان الله عليهم -مع اجتهادهم- من عدولهم عما رأوه راجحاً تقليداً للأئمة كـ: عمر ، وعثمان، وعلي ولذلك فإن ابنَ عمرَ حين سئل عن فتيا، قال: (اذهب إلى هذا الذي تَقَلَّدَ أمر الأمة، فاجعلْها في عنقه)، فالذي تولى أمر الخلافة هو الذي يفتي للناس، وبقوله يؤخذ إذا كان من أهل الاجتهاد والعلم.

[التقليد]
عقد هذا الباب للتقليد.
والتقليد: مصدر قلَّد الشيءَ، إذا جعل في عنقه قلادة.
والمقصود به هنا: ملازمة قول الغير، كأنه جعل في عنقه ما تحمَّله، لما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في سنن أبي دواد - أنه قال: (من أُفتي على غير ثَبَتٍ، فإنما إثمه على مفتيه).
والتقليد هو: الأخذ بقول غير المعصوم من غير معرفة دليله.
فالأخذ بقول المعصوم مطلقاً، لا يكون تقليداً، والأخذ بقول غير المعصوم مع معرفة دليله لا يكون تقليداً له، وإنما هو اتباع للدليل.
فغير المعصوم - حينئذ - مبلغ لذلك الدليل، وأنت أخذتَ بما بلغك.
والتقليد لا يكون إلا عن جهل، ولهذا قال أبو عبادة البحتري :
عَرَفَ العالِمُون فضلَك بالعلـ ـم وقـال الجُـهَّال بالتقليدِ
فالعالمون مَن كان مِن أهل العلم عرفوا فضلك بالعلم، وقال الجهال بالتقليد فقلدوهم في ذلك، فالتقليد لا يكون إلا عن جهل.
  تعريف التقليد
قال المصنف رحمه الله: [والتقليد: قبول قول القائل بلا حجة].
[قول القائل] أي: من كان أهلا لأَنْ يُقبلَ قولُه.
[بلا حجة] أي: من غير معرفة الدليل.
قال: [فعلى هذا قبول قول النبي صلى الله عليه وسلم يسمى تقليدًا]، وهذا غير صحيح، فقد ذكرنا أن التقليد لا يكون إلا بأخذ قول غير المعصوم من غير معرفة دليله.
[ومنهم من قال: التقليد قبول قول القائل وأنت لا تدرى من أين قاله]، أي: لا تدري هل له فيه حجة أم لا.
[فإن قلنا: إن النبي صـلى الله عليه وسلم كان يقول بالقياس، فيجوز أن يسمى قبول قوله تقليدًا].
والنبي صلى الله عليه وسلم اختُلِفَ في حكم اجتهاده:
فقيل: لا يجوز له الاجتهاد؛ لأنه يأتيه الوحي من عند الله، والوحي قطعي، والاجتهاد ظني، واستبدالُ الاجتهادِ الظني بالوحي القطعي من استبدال الأدنى بالذي هو خير.
وقيل: بل يـجب عليه الاجتهاد، لقول الله تعـالى: لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ[النحل:44] ، ولقوله تعالى: لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ[النساء:105] ، ولأنه صلى الله عليه وسلم اجتهد في أمور أُقِرَّ عليها بالوحي، وفي أمور لم يُقّرَّ عليها بالوحي.
والأمور التي لم يُقَرَّ عليها في الاجتهاد، منها:
1- فداء أسرى بدر، فقد قال الله في ذلك: مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ[الأنفال:67].
2- وكذلك وما حصل له مع ابن أم مكتوم ، عندما أتاه وفي مجلسه عليةُ القوم من ملأ قريش، فقال الله تعالى: عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى[عبس:2-3].
3- ومثل ذلك: اجتهاده في معذرة المنافقين حين أقسموا له في رجوعه من تبوك، فعاتبه الله في ذلك بقوله: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ[التوبة:43].
4- وكذلك تحريمه لأمته مارية أمِّ إبراهيم لإرضاء أمهات المؤمنين، وبالأخص لإرضاء حفصة ، أنزل الله فيه:يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ[التحريم:1] .
5- وكذلك ما حصل في قصة زينب بنت جحش مع زيد بن حارثة ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم زوجها لـزيد، ثم أتاه الوحي أن ذلك النكاح لن يستمر، وأن زينب زوجة النبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة، فهو يعلم ذلك عن طريق الوحي، ومع ذلك فكان زيد يأتيه يشكو إليه، وتأتي زينب فتشكو، فيقول لـزيد : وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ[الأحزاب:37] ، وهو ما أوحاه الله إليه من أنها ستكون زوجتَه في الدنيا والآخرة، فقال الله في ذلك هذه الآيات من سورة الأحزاب.
6- وقد اجتهد النبي صلى الله عليه وسلم في أمور الدنيا: كاجتهاده يوم بدر في النزول على البئر التي تليه، ولذلك قال له الحباب بن المنذر: (يا رسول الله! أرأيت منزلك هذا، أهو الرأي والحرب والمكيدة، أم وحـي أُنزل إليك؟ قال: بل هـو الحرب والرأي والمكيدة. فقال: ليس هذا بمنزل)، وأمره أن ينزل على آخر بئر، مما يلي العدو، وأن يُغَوِّرَ الآبار الأخرى، ففعل.
7- ومنها: نهيه عن تأبير النخل، وذكره أنه لا يغير شيئاً، فقال: (أنتم أعلم بشؤون دنياكم).
فالراجح إذاً: حصول الاجتهاد منه صلى الله عليه وسلم، لكنه لا يُقرُّ على الخطأ قطعاً، بل لا بد أن يأتيه الوحي بعد اجتهاده، واجتهاده رفعٌ لدرجته، وزيادة لأجره، لكن مع ذلك الأخذ بقوله حتى لو كان من اجتهاده لا يُسمى تقليداً؛ لأنه معصوم ولا يمكن أن يُقرَّ على الخطأ.

[باب الاجتهاد]
قال المصنف رحمه الله: [وأما الاجتهاد: فهو بذل الوسع في بلوغ الغرض].
 تعريف الاجتهاد
الاجتهاد: مصدر اجتهد، بمعنى: بذل جهده.
والْجُهد: هو الطاقة والوُسع، وأما الْجَهد - بالفتح - فهو المشقة.
وفعل الأول: جَهِدَ في الأمر: إذا بذل فيه طاقته، وأما جَهَدَهُ فمعناه: كَلَّفَهُ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا جهدها وجلس بين شعبها الأربع، فقد وجب الغسل)، وجَهِدَ فلان في الأمر، يجهَدُ فيه؛ إذا بذل فيه قُصَارى طاقته.
والاجتهاد في الاصطلاح، عرفه بقوله: [فهو بذل الوسع في بلوغ الغرض].
أي: بذل الفقيه وُسعه في الوصول إلى معرفة حكم شرعي من دليله.
وجمهور الأصوليين يعرفونه بأنه: (بذل الفقيه وسعه في تحصيل ظن بالأحكام من أدلتها، بحيث يرى من نفسه نهاية طاقته) أي: أنه لا يستطيع أن يزيد على ذلك.
والمصنف قال: (هو بذل الوُسع في بلوغ الغرض)، وهذا في اللغة مطلقاً، اجتهد: بمعنى أنه بذل الوسع في بلوغ غرضه.
ثم قال: [فالمجتهد إن كان كامل الآلة في الاجتهاد، فإن اجتهد في الفروع فأصاب فله أجران، وإن اجتهد فيـها وأخطأ فله أجر واحد].
و[المجتهد إن كان كامل الآلة في الاجتهاد] أي: إن كان -فعلاً- مجتهداً، تتحقق فيه شروط الاجتهاد.
[فإن اجتهد في الفروع] في استخراج أحكامها، ولا اجتهاد في محل النص، فالاجتهاد إنما يكون في الأمر الذي خفي حكمه.
[فأصاب] الحكمَ في علم الله.
[فله أجران] حينئذ.
[وإن اجتهد وأخطأ] الحكمَ في علم الله.
[فله أجر واحد] لاجتهاده، وليس عليه إثم في خطئه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب كان له أجران، وإذا اجتهد وأخطأ كان له أجر).
 المصيب واحد من المجتهدين
قال رحمه الله: [ومنهم من قال: كل مجتهد في الفروع مصيب]، هذه مسألةُ التخـطئةِ والتصـوِبَةِ، التي تسمى بـ: رأي المخطئة ورأي المصوبة، وهي: أن الاجتهاد امتحان من الله تعالى للمجتهد في الوصول إلى معرفة الحكم، أي: حكم الله في كل مسألة، فما من مسألة إلا ولله فيها حكم، ولكنَّ ذلك الحكمَ خفيٌّ لم يرد فيه نص، فامتحن الله الناسَ في الوصول إليه، فمن وصل إلى ذلك الحكم الذي هو في علم الله فهو مصيب قطعاً، ومن لم يصل إليه فهو مصيب فيما بينه وبين الله باجتهاده، لكن في علم الله أنه لم يصل إلى الحكم الذي علمه الله.
وعلى هذا، فمن الناس من يرى أن (كل مجتهد مصيب)، ومنهم من يرى أن (لكل مجتهد نصيب) فقط، وأنه منهم من يصيب ومنهم من يخطئ، فمن أصاب الحق في علم الله فهو المصيب، ومن أخطأه فهو مخطئ، ويستدلون بهذا الحديث: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب كان له أجران، وإذا اجتهد وأخطأ كان له أجر) فدل هذا على أنه يمكن أن يصيب ويمكن أن يخطئ.
ويمكن الجمع بين القولين، بأنه ما من مجتهد إلا وهو مصيب في امتثاله لأمر الشارع له بالاجتهاد، ولكن مع ذلك قد يصيب الحق في علم الله، وقد لا يصيبه، بحسب توفيق الله له.
 محل الاجتهاد
ومحل هذا في الفروع، والفروع: هي ما لم يحسمه دليل قطعي، فما حسمه الدليل القطعي فهو من الأصول، ولا يُقصد هنا بالفروع: الفروع الفقهية لإخراج العقائد، بل من العقائد ما لم يحسمه الدليل فيكون محلاً للاجتهاد، ومن المسائل العملية ما حسمه الدليل فلا يكون محلاً للاجتهاد، كوجوب الصلاة والزكاة ونحو ذلك، وحرمة الزنا والخمر ونحو ذلك، فهذه الأمور لا اجتهاد فيها؛ لأنها من الأصول، حيث حسمها الدليل.
 عذر المحتهد إذا أخطأ
قال يرحمه الله: [ولا يجوز أن يقال: كل مجتهد في الأصول الكلامية مصيب؛ لأن ذلك يؤدي إلى تصويب أهل الضلالة من النصارى والمجوس والكفار والملحدين].
هذه المسألة حصل فيها الخلاف بين المعتزلة وغيرهم، فقد قال النظام وتبعه على ذلك عدد من المعتزلة: (كل من اجتهد في طلب الصواب فهو مصيب، سواء كان ذلك في العقائد أو في غيرها) وعلى هذا يعذرون من كان من الكفار والمنافقين والضلال مجتهداً في طلب الحق ولم يكابر، وإنما أداه عقله الذي خصه الله به إلى الوصول إلى رأي يراه عينَ الصواب وهو غير مكابر، فيعذرونه.
وهذا القول، دونه قولُ الذي ذهب إليه إمام الحرمين -هنا- وغيره من المتكلمين، من أن الأمور العقدية لا اجتهاد فيها مطلقاً، وأن المخطئ فيها غيرُ معذور، وذكروا عن عدد من الأئمة أنه كان يقول: (اسألني في علم إذا أخطأتُ فيه قلتَ: أخطأتَ، ولـم تقل كفرتَ، ولا تسألني عن علم إذا أخطأتُ فيه قلت: كفرت).
وقد ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إلى أن من كان من أهل الإيمان والصلاح والالتزام فاجتهد فهو معذور مطلقاً، سواء كان ذلك في العقائد أو في غيرها.
وهذا القول وسط بين القولين السابقين، ولعله أقرب للصواب، وأسعد بالدليل.
فإذا كان الإنسان معروفاً بالصلاح والالتزام والخشية واجتهد فأخطأ في تأويل الصفات أو في غير ذلك من الأمور، فهو معذور في ذلك الاجتهاد، ولا يضره اجتهاده بل هو مثاب عليه.
وإن كان معروفاً بالفساد والإنكار لأمور الدين ونحو ذلك: فلا يُعذر، ولا يُقبل منه الاجتهاد أصلاً في ذلك.
ثم قال رحمه الله: [ودليل من قال: ليس كل مجتهد في الفروع مصيبًا، قوله صلى الله عليه وسلم: (من اجتهد وأصاب له أجران، ومن اجتهد وأخطأ له أجر)وقد روى هذا الحديث بالمعنى.
[ووجه الدليل: أن النبي صلى الله عليه وسلم خطَّأ المجتهد تارة، وصـوبه أخرى]، لأنـه قال: (فأصاب)، وقال: (فأخطأ)، فدل ذلك على أنه محتمل للأمرين: للإصابة والخطأ.
وفي الأخير قال رحمه الله: [والله سبحانه وتعالى أعلم]، وذلك بإحالة العلم إلى الله تعالى فيما نجهله نحن، ومن سنة أهل السنة، أن يقولوا فيما التبس عليهم: (الله أعلم).
والإنسان إذا تكلم في أمور الدين الظنية، فمن الأفضل أن يختم كلامه بذلك؛ لأنه قد يكون وقع في خطأ، فيحيل العلمَ إلى الله سبحانه وتعالى فيه.
ومن هنا فقد كان أبو بكر رضي الله عنه يقول في المسألة إذا سئل عنها فاجتهد: [أقول فيها برأيي، فإن كان صواباً فمن فضل الله ورحمته، وإن كان خطأ فمن نفسي ومن الشيطان].
وبهذا أنهى ما ذكر في خطبته للكتاب، وإن كان كما ذكرنا لم يحتو كل أبواب أصول الفقه، لكنها مقدمات مفيدة للمبتدئين في أصول الفقه، يُعرف بها كثير من الاصطلاحات ورءوس المسائل التي يحتاج إليها من يدرس هذا العلم.
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد عبدك ونبيك ورسولك النبي الأمي، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً، اللهم لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، لك الحمد بكل شيء تحب أن تحمد به، على كل شيء تحب أن تحمد عليه، لك الحمد في الأولى والآخرة، لك الحمد كثيراً كما تنعم كثيراً، لك الحمد أنت أحق من ذكر، وأحق من عبد، وأنصر من ابتغي، وأرأف من ملك، وأجود من سئل، وأوسع من أعطى، أنت الملك لا شريك لك، والفرد لا ند لك، كل شيء هالك إلا وجهك، لن تطاع إلا بإذنك، ولن تعصى إلا بعلمك، تطاع فتشكر، وتعصى فتغفر، أقرب شهيد، وأدنى حفيظ، حلت دون النفوس، وأخذت بالنواصي، ونسخت الآثار، وكتبت الآجال، القلوب لك مفضية، والسر عندك علانية، الحلال ما أحللت، والحرام ما حرمت، والدين ما شرعت، والأمر ما قضيت، والخلق خلقك، والعبد عبدك، وأنت الله الرؤوف الرحيم، نسألك بعزك الذي لا يرام، وبنورك الذي أشرقت له السموات والأرض أن تعلمنا ما ينفعنا، وأن تنفعنا بما علمتنا، وأن تزيدنا علماً وعملاً وإخلاصاً يا أرحم الراحمين!
اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا من لا يرحمنا، ولا تجعل إلى النار مصيرنا؛ واجعل الجنة هي دارنا!
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد، ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب، ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد، ربنا أفرغ علينا صبراً وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين، ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشداً، ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراماً، إنها ساءت مستقراً ومقاماً، ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين، واجعلنا للمتقين إماماً، ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم، ربنا أتمم لنا نورنا واغفر لنا إنك على كل شيء قدير.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

.

إلى روح أبي ، محب العلم ونبراس المعرفة

ذ عبد اللطيف البوزيدي ، إنشاء الموقع 02 / 10 / 2011 .. يتم التشغيل بواسطة Blogger.

-

-