نقد النفس العربية: في أسباب التمسك بالسلطة




خلافا لما تم بذله من جهود فكرية لدراسة 'العقل العربي' ونقده من قبل فلاسفة ومفكرين عرب لم يكن المرحوم محمد عابد الجابري أولهم وإن كان أشهرهم، لم تحظ 'النفس العربية' من جهتها بما يلزم من الدراسات السيكولوجية، مع أن الحاجة في الوطن العربي إلى هذا النوع من دراسة الجوانب النفسية والاجتماعية ذات الصلة بالموروث الثقافي في علاقته بواقع ومتغيرات العصر، باتت أكثر إلحاحا مع تنامي مسببات الاضطرابات النفسية والاجتماعية، وعلى رأسها العجز السياسي والاقتصادي والتنموي وما ينجم عنه من تنامي تجاوزات واعتقال وتعذيب وتضييق وتفشي بطالة وتعمق فوارق طبقية وتدني مستوى نظم وفساد مؤسسات، وما يخلفه كل ذلك من قلق وتذمر وإحباط وما يؤدي إليه من انحرافات سلوكية وأزمات نفسية، تتمظهر على أرض الواقع بانتشار ظواهر ملحوظة الذيوع والتفشي، كالتفكك الأُسري والجريمة المنظمة وإدمان المخدرات والبغاء والشذوذ لدى الجنسين، وأطفال الشوارع والحمقى المشردين، وغيرها من تمظهرات ليست في المحصلة إلا أعراضا لأمراض نفسية تنخر المجتمعات العربية بنسب مهولة وفوق المعدلات الطبيعية بكثير.
ورغم ندرة الدراسات والإحصائيات في هذا المجال فإن منها ما يؤكد مثلا أن أكثر من نصف العرب يعانون من الاكتئاب على أقل تقدير، كما أن من الدراسات ما يشير إلى ارتفاع معدلات العجز الجنسي لدى العرب بعد كل هزيمة أو نكبة جديدة، علما بأن ما يزيد من خطورة الأمراض النفسية والعصبية على النسيج الاجتماعي، أمران أحلاهما مرّ: 1. أن الأمراض النفسية تبقى في الغالب من دون علاج لندرة المصحات النفسية العمومية أو تحولها إلى مراكز إيواء وتخدير، كما أن نسبة الأطباء والأخصائيين النفسيين متدنية جدا بالوطن العربي دون غيره من مناطق العالم، إذ يضطر معظمهم رغم قلة عددهم إلى الهجرة أو يتحولون إلى ممارسة السياسة أو التدريس أو مهن ووظائف أخرى.2. ان المرضى النفسيين غالبا ما يلجأون أو يصطحبهم ذووهم، إسلاميين وعلمانيين، محافظين و'حداثيين'، لزيارة 'الأولياء الصالحين' أو المشعوذين على اختلاف 'تخصصاتهم'، في مشاهدَ مضحكةٍ مبكية تُفاقِم حالةَ المريض، وتقلّل من إمكانية العلاج الإكلينيكي، فهذا يصارع الجنّ مصارعة 'حرّة' يعلم وحده أدواتِها وقواعدَها، فيثخن المريض رفسا ويوسعه ضربا، وحالات الوفيات بين أيدي 'أطباء الغفلة' هؤلاء متعددة ولا يكاد يستثنى منها بلد عربي، وذاك يعالج الصرع أو الإغماء بالخزعبلات والبصل والمفاتيح وكل ما خطر له على بال وهلم جرا. ومما يدل على انتشار الشعوذة والممارسات الجاهلية لدى العرب وشعوب أخرى متخلفة، أنهم رجالا ونساء وحسب إحصائيات منشورة، ينفقون الملايير لدى المنجمين والعرافين والدجالين، في مسائلَ زوجيةٍ وعلائقيةٍ أصلُ أغلبِها نفسيٌ ولا علاقة لها بالجن أو السحر أو العجائبية. إلا أن أغرب ما أستحضره حول استفحال الشعوذة والممارسات 'الماورائية' لدى العرب هو قصة ذلك الدجال الذي يبدو أنه اختفى كما ظهر فجأة منذ سنتين تقريبا بضواحي العاصمة المغربية، مدعيا أنه يوزع البركات والأرزاق، فتقاطر عليه المغفلون أو بالأحرى 'المرضى النفسيون' من كل الجهات والفئات، وصار حديث العام والخاص، وذكرت الصحف الوطنية أن من العلية ذوي أعلى المناصب من سارعوا سرا وعلنا إلى الاستفادة من بركاته.
إن ما يعانيه الفرد العربي نفسيا جراء تدهور الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية المحيطة به ما يلبث على المدى البعيد أن ينعكس سلبا على دينامية المجتمع وتماسكه الداخلي، كما أنه ينعكس في المدى المنظور على ذوي المريض النفسي وأقربائه، ويكفي أن نسوق ثلاث حالات غريبة ومقلقة حدثت بمناطق مختلفة من الوطن العربي (مصر والمغرب وفلسطين) جاءت متشابهة حد التطابق، لآباء أقدموا على حرق أبنائهم بصب الوقود وإضرام النار (في حالتين) أو الإلقاء مباشرة في نار متقدة (حالة واحدة) بسبب صراعات زوجية أو عائلية، وفي ما يسمى علميا 'عملية إسقاط' في أقصى وأقسى تجلياتها، إذ يكفي في هذه الحالات بالذات أن نلاحظ أن القتل لم يكن 'رحيما' أو سريعا (بسكين أو أداة أو عيار ناري أو بالخنق) وإنما أُريدَ له أن يكون قاسيا وبطيئا، ليتحقق الغرض المتمثل في 'إشفاء الغليل' بإنزال أشد العقاب وأقساه، ذلك الغليل وذلك الحنق الذي سبّبه 'عصيان' الابن لأوامر مطلقة وإن كان صوابها محل نظر (الأمر بعدم المكوث طويلا لدى أقارب 'معادين' في إحدى الحالات، والأمر بعدم زيارة الأم المطلقة في الحالة الثانية، والشك في النسب في الحالة الثالثة)، فقد اقترف الأبناء الثلاثة ما لا يغتفر وما يستحق عقوبة قصوى تحاكي العقوبة الإلهية، في تمثّل غريب وخطير 'للسلطة الأبوية' على أنها مطلقة على غرار 'السلطة الإلهية'. منطق أخرق يحكم العلاقة بين الآباء (والأمهات) وأبنائهم في نسبة هائلة من الأسر العربية والإسلامية، منطق لا يقبل الجدال في أن الأب 'خليفة الإله' في ابنه، روحه وجسده، ما دام قد 'أنعم عليه' بالحياة، وبالتالي فمن حق الأب (والأم والمعلم والمعلمة أيضا) أن يكون 'شديد العقاب'، وقد يتنازل ويكون 'غفورا رحيما'، فالآباء 'القبضايات' الثلاثة حاولوا كلهم في آخر لحظة بعد أن 'وقع الفاس في الراس' بل بعد أن التهمت النيران الجلد واللحم الغض الطري 'لفلذة الكبد'، حاولوا أن يستبدلوا 'العذاب بالمغفرة' فعمد أحدهم إلى انتشال ضحيته من النار، وأعلن الثاني ندمه الشديد وطلب الثالث لضحيته الإسعاف بعد انتزاع وعد بعدم الإبلاغ.
إنه نفس 'تمثُّل السلطة الأبوية' الذي يسمح من دون رادع أو حسيب لنسبة كبيرة من الآباء والأمهات العرب 'بممارسة أنانيتهم ولا مسؤوليتهم وسفاهتهم على أبنائهم وبناتهم، وقد أوصى الإسلام بتجريد السفهاء من مسؤولية المال، فبالأحرى مسؤولية الأطفال، ومن أهم مظاهر أنانية ولا مسؤولية وسفاهة العديد من الآباء والأمهات يمكن أن نرصد: * ارتفاع أعداد قضايا النفقة بعد الطلاق أمام المحاكم. * الارتفاع المهول لأعداد أطفال الشوارع في العديد من العواصم والمدن العربية. * اختلال الإنفاق الأسري لصالح الأب والأم وكمالياتهما على حساب الأطفال، مما يخلف مفارقات غريبة كأن يملك الأب عقارات وسيارة فاخرة وتملك الأم مجوهرات وفساتين تكلف الملايين، بينما يعاني الأبناء من الحرمان وسوء التغذية وانعدام الرعاية الصحية. * ظاهرة التهافت على امتلاك سكن أو ما يصفه البعض تعظيما 'قبر الحياة'، رغم قلة الإمكانات والاضطرار إلى طلب قرض ينهك ميزانية الأسرة ويتم تسديده على حساب الغذاء والكساء والتطبيب والتعليم وما إليها من مستلزمات العيش الكريم. * نزوع الأغنياء والموسرين العرب إلى الادخار غير المنتج وإلى الاستثمار في العقار والقيم غير المنقولة، شحا وتجنبا للمخاطر، مما يؤدي إلى الركود الاقتصادي ويحرم مواطنيهم وأقرب أقربيهم بمن فيهم أبناؤهم من فرص الشغل، ويحرم أبناءهم من التمتع بما رزق الله أباهم وإياهم أو ما رزقهم وإياه.
فهل بمثل هؤلاء الآباء والأمهات يمكن أن تسيَّر أسرٌ وتنهضَ أوطانٌ؟ وهل بأمثالهم وأمثال من تربّوا في أكنافهم يمكن أن تتكون نخبٌ ذاتُ عقول ونفوس سليمة في أجسام سليمة، تسيّر وتدبّر وتقود؟ أليس في التمسك الأسطوري للنخب والقادة العرب بالسلطة نسبةً ما من تلك السلطة الأبوية الجامحة والجانحة؟ أليس في الشطط في استعمال السلطة الأبوية (العليا والدنيا) تشخيصا لواقع أمرُّ ما فيه أنّنا صِرنا نحن العربَ أخطرُ على بعضنا البعض من كلّ أعدائنا مجتمعين؟ مجرّدُ أسئلة.
عبد اللطيف البوزيدي - كاتب مغربي - القدس العربي اللندنية

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

.

إلى روح أبي ، محب العلم ونبراس المعرفة

ذ عبد اللطيف البوزيدي ، إنشاء الموقع 02 / 10 / 2011 .. يتم التشغيل بواسطة Blogger.

-

-