2012-05-19
|
درس آخر يجدر أن يضاف إلى الدروس التي عددتها 'القدس العربي' قبل أيام ونصحت القادة العرب بأن يستخلصوها من طريقة تسليم السلطة في فرنسا. إنه درس احترام العلم والاهتمام بالتعليم.
ذلك أن 'الولاية الرئاسية الجديدة في فرنسا قد بدأت بالمدرسة'. هكذا علقت بعض الصحف على اختيار فرانسوا هولاند بدء اليوم الأول من رئاسته بتوجيه تحيتي تكريم إلى شخصيتين تاريخيتين لهما علاقة بالعلم والتعليم. الشخصية الأولى هو السياسي جول فرّي الذي يرجع له الفضل في إرساء نظام التعليم العلماني المجاني والإلزامي الذي لا يزال قائما في فرنسا منذ أواخر القرن التاسع عشر. أما الشخصية الثانية، فهي العالمة الشهيرة البولندية الأصل ماري كوري التي فازت أوائل القرن العشرين بجائزة نوبل مرتين، أولا في الفيزياء ثم في الكيمياء. ولم يترك هولاند مجالا للشك في عزمه على 'بدء الرئاسة بالمدرسة' عندما قال أثناء الخطاب الذي ألقاه أمام تمثال جول فري في حديقة توليري إنه أراد أن تكون 'أولى كلماته رئيسا للجمهورية' موجهة 'إلى معلمي المدارس، وأساتذة المعاهد الثانوية، والجامعيين والباحثين، بل وإلى جميع موظفي التعليم من أبسطهم إلى أعظمهم درجة'. وقد تأكدت جدية التزام هولاند بجعل التعليم قضية مركزية في برنامجه السياسي بتعيينه أستاذ الفلسفة فنسان بيون وزيرا للتعليم. وكان هولاند قد دأب أثناء الحملة الانتخابية على التركيز على قضية التعليم وعلى خصوصيتها في التجربة الديمقراطية الفرنسية. حيث كان مما قاله قبل شهرين أن الطابع الجمهوري لفرنسا قد جعلها 'متعلقة أميز التعلق وأقواه بمدرستها'. وليس هذا إلا 'نتيجة لتاريخ طويل وجميل... ذلك أن الحرية الإنسانية، وانعتاق الفرد، وإقامة الديمقراطية، كل ذلك يقتضي تربية، وتعلّما، وثقافة ومعارف'، فضلا عن أنه يقتضي جهدا و'كفاحا'. ويجوز القول إن المدرسة تختزل جوهر أزمة النموذج الديمقراطي الفرنسي. حيث تعصف بقطاع التعليم منذ حوالي عقدين على الأقل أزمة خطيرة يمثل ارتفاع نسب الإخفاق المدرسي أبرز مظاهرها. وليس هذا الإخفاق المدرسي إخفاقا للتلاميذ والطلاب فحسب، بل هو إخفاق للجمهورية حسب مفهومها الفرنسي لأنه نقض وإبطال للفكرة الأساسية التي قامت عليها مدرسة جول فري: أي فكرة تنشئة المواطن الصالح الناجح عن طريق صهر جميع الأطفال في بوتقة التربية العمومية المركزية ذات المناهج والمقررات الموحدة، حيث أن ما يتعلمه الطفل في أرقى أحياء باريس هو بالضبط ما يتعلمه الطفل في أنأى الأرياف (بل وهو بالضبط ما كان يتعلمه الأطفال في المستعمرات، بما فيها بلاد المغرب العربي). وإذا كان المغزى من تكريم ماري كوري إجماعيا: فهو تكريم للمرأة وللمهاجرين، فضلا عن أنه احتفاء بالبحث العلمي، فإن تكريم جول فري قد أثار جدلا. ذلك أن هذا السياسي، الذي تولى مناصب التعليم والخارجية ورئاسة الوزراء أواخر القرن التاسع عشر، لم يكن مؤسس نظام التعليم العلماني الذي تفخر به فرنسا وأحد أهم زعماء الجمهورية الثالثة فحسب، بل إنه كان أيضا أبرز غلاة الاستعماريين. إذ إنه هو الذي فرض نظام 'الحماية' الاستعماري على تونس وعلى ما يعرف اليوم بفيتنام، وعمل على توسيع الانتشار الاستعماري الفرنسي في إفريقيا. كما أنه صاحب المقولة الشهيرة في التنظير للاستعمار، أي أن 'على الأعراق المتفوقة واجب تمدين الأعراق الدنيا' - وهي المقولة التي تعرف بـ'المهمة التمدينية' أو 'الرسالة الحضارية'. لهذا عمد هولاند إلى التوضيح بأنه يدرك'ضلالات جول فري السياسية' ويدين حماسته للاستعمار بحسبانها 'خطأ أخلاقيا وسياسيا'، وشرح أنه إنما قصد أن يكرّم فيه رجل التشريع الذي أسس 'هذا البيت المشترك الذي هو مدرسة الجمهورية'. والواقع أن هولاند لم يخطىء اختيار الرمز. ذلك أن اسم جول فري هو مرادف، لدى عموم الفرنسيين، لنظام التعليم العلماني. ولذلك لا تزال المدارس باسمه تعدّ بالمئات. أما الدرس المقصود بالنسبة لنا نحن العرب فهو أن لا نجاة، بل لا حياة، لنا إلا إذا طلقنا ثقافة الاستهلاك والاستسهال، ووضعنا العلم والتعليم على قمة سلم قيمنا الاجتماعية. ذلك هو الدرس: إذا كانت 'المرأة هي مستقبل الرجل'، مثلما يقول الشاعر لوي أراغون، فإن المدرسة هي مستقبل الوطن الحر. المدرسة هي مختبر الوطنية ومستقبل الديمقراطية. |
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق